لم تكن سرعة الخيل الخارقة وقدرتها على التحمل في المعارك والسباقات وليدة الصدفة، بل كانت نتاجاً لعلمٍ دقيق وممارسةٍ منهجية أبدع فيها العرب. لقد أدرك الأجداد أن الجواد، حتى وإن كان من سلالة أصيلة، يحتاج إلى إعدادٍ خاص قبل أن يمتطي صهوة المجد. هذا الإعداد، الذي أطلقوا عليه اسم “التضمير”، كان بمثابة سرٍّ من أسرار الفروسية القديمة، يمزج بين التغذية والجهد والرعاية، لتحويل الخيل من حيوان عادي إلى بطلٍ لا يُشق له غبار. إنها رحلةٌ فريدة، تبدأ من المربط وتنتهي في ساحة المعركة، وتكشف عن عبقريةٍ عربية في فهم فسيولوجيا الخيل، لم تكن مجرد هواية، بل علماً ومنهجاً.
“التضمير” هو مصطلح عربي قديم يُقصد به تهيئة الخيل وتدريبها بشكل مكثف لتصبح جاهزة للسباق والجهاد. هذه العملية لا تهدف فقط إلى زيادة سرعة الخيل، بل إلى تحقيق التوازن الأمثل بين القوة الجسدية والخفة، مما يزيد من قدرتها على تحمل المسافات الطويلة والجهد الشديد.
وقد كانت هذه العملية دقيقة ومنهجية، وقد وردت في المصادر التاريخية بوضوح تام، مما يثبت أنها لم تكن مجرد ممارسة عشوائية، بل كانت نظاماً محسوباً يهدف إلى تحقيق أقصى أداء مع الحفاظ على صحة الحيوان. هذا الفهم المتقدم يضع العرب في مصاف الحضارات التي أدركت قيمة التدريب المنهجي والإعداد المسبق.
تُوضح المصادر تفاصيل عملية التضمير، التي كانت تستغرق عادةً أربعين يوماً، وتمر بعدة مراحل:
لم يكن “التضمير” مجرد عادة جاهلية، بل أقره الإسلام وجعله جزءاً من سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى سباقين للخيل، وفرق بين نوعين منها:
ويظهر هذا التفريق النبوي بين النوعين حكمة بالغة في التنظيم، حيث راعى النبي صلى الله عليه وسلم قدرات الخيل المختلفة، وأعطى كل نوع السباق الذي يناسبه. كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضمر خيله بنفسه، ويفرح بتقدمها في السباق، مما يؤكد اهتمامه العملي بهذه الممارسة.
إن الغاية من التضمير لم تكن ترفيهية، بل كانت استراتيجية وعميقة. فقد كان العرب يدركون أن “الخيل وقاية لأنفسكم والموت وقت مؤجل”، وأنها حصونهم التي يعتصمون بها. لذا، كان الإعداد الجيد للخيل جزءاً لا يتجزأ من الإعداد للقوة والجهاد. فالتضمير يهدف إلى “تمرين الخيل على الجري، وإعدادها لإعزاز كلمة الله تعالى ونصرة دينه”.
وهكذا، فإن “الخيل المضمرة” لم تكن مجرد خيول سباق، بل كانت “أسلحة” جاهزة للحرب، قادرة على الكر والفر والمباغتة. إن هذه الممارسة تظهر فهماً متطوراً لفسيولوجيا الحصان، وكيف أن إعداد الحصان جسدياً ونفسياً يرفع من قدراته القتالية، ويجعله شريكاً موثوقاً في أصعب الظروف.
إن فن “تضمير الخيل”، رغم قدمه، يظل يمثل حكمة خالدة في علم الفروسية. فمبادئه الأساسية من تحقيق التوازن بين القوة والخفة، والتركيز على القدرة على التحمل، هي ذاتها المبادئ التي تُستخدم في العصر الحديث لإعداد خيول السباق والفروسية. هذا الإرث يذكرنا بأن الأجداد لم يكونوا مجرد فرسان شجعان، بل كانوا خبراء في علمهم، يجمعون بين الأصالة، والفراسة، والمعرفة العميقة. إن “الخيل المضمرة” هي رمزٌ حيّ لهذه العلاقة العبقرية بين الإنسان العربي وجواده، علاقةٌ أثمرت أبطالاً، وصنعت مجداً، وخلدت إرثاً لا يزال صهيله يصدح في حاضرنا.