لطالما ارتبطت رياضة الفروسية بالفخر والشجاعة، إذ لم تكن مجرد مهارة بدنية يُتقنها الإنسان، بل كانت ولا تزال انعكاسًا لروحه، وانضباطه، وتوازنه الداخلي. فركوب الخيل لا يقوم على القوة وحدها، ولا يُقاس فقط بمدى إجادة الفارس للانطلاق أو التحكم بالسرعة، بل هو فن رفيع يتجلّى فيه الانسجام بين العقل والجسد، بين الإنسان والحصان، وبين الإشارة والاستجابة.
في قلب كل فارس ناجح، تسكن أخلاقيات دقيقة وسلوكيات تنبع من الاحترام، والصبر، والذكاء في التعامل مع الكائن الذي يُجالسه على السرج. وإن فهم سلوك راكب الخيل لا يقتصر على ما يظهر في ساحة التدريب أو مضمار السباق، بل يتعدى ذلك إلى مواقف خفية، وتصرفات صغيرة، قد تكون الفارق بين راكب عابر وفارس حقيقي.
في هذا المقال، نُسلّط الضوء على خمسة أمور أساسية تتعلّق بسلوك راكب الخيل، قد لا تُدرَّس في الدورات التدريبية، لكنها تصنع الفرق الحقيقي في مسيرة كل من يتخذ من الفروسية شغفًا ورسالة. إنها قواعد ذهبية تُرشدك إلى علاقة أعمق مع خيلك، وتكشف عن جوهر الفروسية التي تُبنى على الاحترام المتبادل والثقة الراسخة.
الخيول مخلوقات بالغة الحساسية، ولديها قدرة مذهلة على قراءة لغة الجسد والتقاط الإشارات الدقيقة من الأشخاص حولها، وخاصة أولئك الذين يركبونها أو يتعاملون معها بشكل مباشر. فعندما يفتقر راكب الخيل إلى الثقة، أو يظهر عليه القلق والتوتر، فإن الحصان يلتقط تلك الإشارات فورًا، ويبدأ في فقدان ثقته بنفسه وبراكبه.
يحدث ذلك غالبًا عندما يغادر الحصان منطقة الراحة الخاصة به — مثل الإسطبل أو الساحة المألوفة — فيواجه مؤثرات خارجية مفاجئة: كتحليق الطيور، أو ضجيج السيارات، أو صوت أكياس بلاستيكية تتطاير في الهواء. حينها، قد يُظهر الحصان توترًا بسيطًا كالتوقف أو الالتفات المفاجئ، ولكن إن لم يجد طمأنينة في راكبه، سيتصاعد خوفه.
فالفارس الواثق يُعيد التوازن النفسي للحصان في هذه اللحظات، بينما يزيد الفارس القلق من ارتباكه، ويجعل الحصان يشعر وكأن هناك خطرًا حقيقًا يترصده، مما يخلق دائرة مفرغة من الخوف المتبادل بين الاثنين.
بطبيعته، الحصان كائن يتصرف بدافع البقاء، فاليقظة الدائمة والخوف من التهديدات جزء من تكوينه الغريزي، لا سيما كونه فريسة في السلسلة الغذائية. لكن مسؤولية تهدئة هذا التوتر تقع على راكب الخيل. فكلما كان راكب الحصان خائفًا أو مشتت الذهن، انعكس ذلك على الحصان بشكل مباشر.
وغالبًا ما تتأصل هذه الحالة من الخوف في عقل الراكب بعد تجارب سلبية أو تقدم في العمر، أو بسبب تراكم الضغوط والمسؤوليات. فيبدأ الشخص بتخيل أسوأ السيناريوهات، كالسقوط، أو الفزع، أو فقدان السيطرة. ومن المؤسف أن هذه التوقعات قد تتحول إلى نبوءات تتحقق ذاتها، لأن الحصان يستجيب تمامًا لما يشعر به راكبه.
قد لا يكون الفارس قلقًا من الحصان نفسه، ولكن إذا كان غاضبًا أو متوترًا لأسباب أخرى كالإجهاد في العمل أو المشاكل الشخصية فإن هذه الحالة النفسية تنتقل بسهولة إلى الحصان. فالخيول تُحس بالمزاج، وتنعكس عليها انفعالات الإنسان الذي يتعامل معها.
إذا قضى الراكب وقتًا مع الحصان وهو غاضب أو عصبي، فغالبًا ما يشعر الحصان بالارتباك أو بفقدان الثقة. فهو لا يُدرك أن هذا الغضب لا علاقة له به، بل يعتبر نفسه مصدره. لذا، من الضروري أن يُركز راكب الخيل عند التدريب فقط على اللحظة الحالية، وأن يتخلّى عن كل ما مضى من ضغوط.
فالحصان لا يمكن أن يكون هادئًا ومسترخيًا بينما راكبه متوتر، والعكس صحيح.
من حين لآخر، نسمع عن خيول “لا يمكن السيطرة عليها” أو تُظهر سلوكًا عدائيًا تجاه البشر. لكن في كثير من هذه الحالات، يكون السبب هو غياب العلاقة الواضحة بين الحصان والإنسان. فالحصان الذي يحترم من يقوده لا يقتحم مساحته الشخصية، ولا يحاول السيطرة أو الضغط عليه.
ومع ذلك، ينبغي على الحصان أن يتبع من يقوده، حتى لو لم يكن يشعر بثقة تامة. ولكي يُقنع الفارس حصانه بذلك، لا بد أن يظهر له الحزم بلُطف، والثبات دون قسوة. فالقيادة الناجحة لا تقوم على الشدة، بل على الهدوء، الاتزان، والوضوح.
لكي تكون فارسًا يحظى بثقة حصانه، ينبغي أن تكون شخصًا يمكن التنبؤ بتصرفاته. فالحصان يحتاج إلى من يُرشده بثبات واتساق، لا إلى من يغيّر القواعد كل يوم. إن الفارس المتردد أو المتقلب في سلوكه يُربك الحصان ويجعله يشك في قدرته على القيادة.
الثقة تُبنى عندما يكون راكب الخيل هادئًا، حاضر الذهن، واضحًا في إشاراته، وحازمًا في قراراته دون أن يكون عنيفًا أو مترددًا. بهذه الطريقة، يشعر الحصان أنه في يد أمينة، ويُصبح أكثر تعاونًا واطمئنانًا في كل موقف.
راكب الخيل الناجح لا يُقاس بمهارته في الركوب فقط، بل بقدرته على بناء علاقة قائمة على الاحترام والثقة مع حصانه. إن فهم سلوكك وانعكاسه على الحصان يُعدّ الخطوة الأولى نحو فروسية ناضجة ومسؤولة. فكن القائد الذي يحتاجه حصانك، لا مصدر قلقه، وتذكّر دومًا: أن سلوكك هو المفتاح لسلوك خيلك.
تابعونا على الانستجرام أضغط هنا
للمزيد من المقالات أضغط هنا